خالد ذهني

عابر سبيل

في محطة الحافلات- خالد ذهني

استيقظت علي دقات ساعة الحائط العتيقة تعلن السادسة صباحاً، فتحت عيني بصعوبة بالغة بعد ليلة رافقني فيها الأرق حتي ساعات الفجر الأولي ولم يغادرني الا بعد ان قبلت جفوني أخيراً ان تتلاقي من فرط الإعياء. أدرت عيني في جنبات حجرتي وقد أضاءها شعاع الشمس البازغة ثم توقفت علي البدلة الملقاة علي الكرسي الوحيد الباقي في الغرفة فإنتصبت واقفاً ؛ سحقاً لقد تأخرت علي ميعاد مقابلة الوظيفة الجديدة!

ثلاثون عاما حملت فيها لقب عاطل. رحل أبي تاركاً لي ما كان بمعاير ذلك العصر ثروة عظيمة. يومها وجسد أبي مسجي علي الفراش أمامي أتخذت قراري: سوف لن أضيع وقتي عبثاً بين الوظائف والأعمال، يكفيني تاريخ أسرتي العريقة زهواً وفخراً، يكفيني أني سليل عائلة كل رجالها من كبار رجال الدولة. لقد ملكت عائلتي الدنيا وما فيها وانا وريثها الوحيد وسأعيش أنا لهذا التاريخ وبه، فما بي حاجة الي العمل والنصب والشقاء بين الدواوين والوزارت التي لن تقبل بي علي اي حال.

لم أكن يوماً مجتهداً كأبي ، حصلت علي شهادة الثانوية العامة بمساعدته ، فقد إضطر -خوفاً علي سمعة العائلة- الي استخدام نفوذه فأتي لي بأسئلة الإمتحان النهائي وأتي بمن دربني علي إجاباتها، فنجحت بصعوبة، علي أنه أدرك ضعف عزمي وعزوفي عن الاجتهاد وخشي ان يستغل خصومه في الدولة مساعيه الخفية لمساعدتي في التعليم لتدميره ، فقرر أن يستعين بقرين، بعثه الي بريطانيا منتحلاً شخصيتي وأرسلني أنا الي استراليا الهو وأعبث، حتي اذا ما نجح القرين في الحصول بإسمي علي درجة رفيعة في الاقتصاد ، زج به والدي لدي عودته في سجنٍ نُسّي في غياهبه ، وأرسل الي كي أعود وأتقلد منصباً رفيعاً في الدولة ، حال بيني وبينه وفاة والدي المفاجأة و خروج قريني من غياهب النسيان ليكشف فساد أبي ، فأدار الجميع لي ظهورهم وتنكر رجال أبي لي ، علي انني إحتفظت بلقب “الدكتور” يناديني به خدم السرايا والعاملين فيها.

ثلاثون عاماً و الثروة تتأكل بفساد القائمين عليها وإعراضي عن حسابهم، ورويدا رويدا بيعت الحقول والمصانع سداداً للديون، ثم دخل التقشف حياتي فإختفت منها مظاهر الرفاهية والرغد، بدأً بعم صالح السائق وعم اسماعيل السفرجي وتبعه طاقم الخدم وعمال السرايا  ثم سياراتنا العتيقة واحدة بعد الأخري ثم  بيع الأثاث والتحف فرادي وجماعات واخيراً بيعت السرايا الخاوية علي عروشها،  وإنتقلت أنا للسكني في حجرة صغيرة  بسطح احد عمارات القاهرة القديمة ملحق بها دورة مياة ، يصاحبني فيها فراشي القديم وكرسي هذا وساعة الحائط الخاصة بجدي و أخيراً منضدة مذهبة قيل لي ان أمي التي رحلت بعد ولادتي مباشرة كانت تحبها جداً.

أسرعت الي الصنبور أستجديه أن يمنحني بعض قطرات الماء أزيل بها أثر السهاد لكنه أبي بعناده المعتاد، فلجأت لزجاجة ماء صببت منها بحرص علي وجهي ورأسي، بحثت عن  قطعة الصابون فتذكرت انها قد نفذت منذ اسابيع كما نفذ معها آخر مدخراتي. فتشت جيب البدلة واطمأننت علي آخر خمسة جنيهات خصصتها لهذا اليوم المرتقب: خمسون قرشاً قدح القهوة من المقهي، خمس وسبعون قرشاً ساندويتش الفول العادي، خمس وعشرون قرشاً سيجارة كليوبترا فرط من سعيد  الخردواتي ثم ثلاثة جنيهات ونصف ثمن تذكرة الحافلة لمدينة السادس من أكتوبر حيث مقر المقابلة لوظيفة “عامل نسيج”. هززت رأسي أسفاً لما آل اليه حالي ثم خطر لي خاطر: ماذا لو لم أحصل علي الوظيفة؟ كيف أعود من  أطراف المدينة الي غرفتي هذه؟

طردت الخاطر من نفسي و إرتديت ملابسي  علي عجل وإلتقطت حذائي وأسرعت أغادر غرفتي بهدوء وانا أرجو الله الا يقابلني فوزي البواب فيطالبني بإيجار الغرفة المتأخر. خاب رجائي كالمعتاد ، فما كدت أصل لبهو مدخل العقار حتي وجدت البواب الكريه قد اتخذ موقعه اليومي بجوار الباب وقد انهمك في التهام أطباق من الفول و الجبن والبيض المسلوق والبيض المخفوق بالبسطرمة والسجق. نازعني شغف الي النظر الي طعامه حتي تقلصت معدتي جوعاً لرؤية الطعام الذي حرمت منه ما يرنو علي الثلاثة أيام أكتفيت فيهم بملئها ببعض الماء والسكر، فربطت عليها بكلتا يدي حتي تسكن، ثم ألقيت علي الرجل التحية فإكتفي بهز رأسه وهو يلقم لقمة عظيمة.

هممت بلانصراف لكن فوزي إستوقفني بكف يده وقال وهو يفرك أصابعه

– الإيجار يا أخينا

– دكتور يا فوزي، أنا دكتور في الإقتصاد

– ليس هذا من شأني،  الإيجار

– اليوم  عندي ميعاد لوظيفة جديدة، أمهلني بعض الوقت.

– أراحنا الله من هذا الشقاء، انظر يا هذا، المهلة تنتهي عند صلاة الظهر، بعدها سأرفع أمرك للمعلم، وهو عند كلمته، اما الدفع او قبول العمل عنده

إنتفضت غاضبا وصحت به

– تباً لمعلمك، أنا سليل الحسب والنسب حفيد أسياد هذا البلد وكبارائها، وأحمل دكتوراه في الاقتصاد تريدني ان اعمل جامع قمامة عند المعلم؟

ضحك فوزي البواب حتي انتابته نوبة سعال عنيفة انتهت ببصق بعض الإفرازات علي الأرض وقال:

– لهذا يريدك المعلم، فهو يهوي جمع من هم مثلك من “الأنتيكات”، مثلما كان يجمع النفائس من وسط قمامة قومك في طفولته، علي العموم انت حر ، موعدنا صلاة الظهر إما الدفع وإما تتسلم العربة والبغل من “مقلب” المعلم في إمبابة وتبدأ من الليلة جمع القمامة يا…..دكتور

ثم إشاح الرجل بوجهه عني والتقط لقمة اخري أخذ يلوكها وقال

– ولا تنسي ان تمر بي عند عودتك حتي تأخذ الدلو والممسحة لتنظف السلم

– السلم؟ امسح السلم ؟

– نعم السلم، هل تمانع؟ فوائد علي إيجارك المتأخر، غرامة، تهذيب وإصلاح، هل تمانع؟ هيا انصرف من هنا ، أذهبت شهيتي

قالها وهو يشعل سيجارة المارلبورو الأحمر وينفس دخانها في وجهي.

انطلقت الي المقهي واحتسيت القهوة مع ساندويتش الفول وختمت بالسيجارة الكليوبترا الفرط ثم أسرعت الي محطة الحافلات لاستقل الحافلة رقم ١١ خط سيراكتوبر- النهضة. طال انتظاري وشرد ذهني، وشيئاً فشيئاً تملكتني ثورة عارمة علي كل شئ ومن كل شئ، علي أبي وعلي المعلم وعلي فوزي البواب، أبي الذي أفسدني بسعيه لتوريثي مجد الاسرة العريق دون أن أكون مؤهلاً له فلاحقني عاره طول حياتي والمعلم الذي يسعي لشرائي وشراء مجد أسرتي وتاريخها بماله الذي جمعه من القمامة ، وأخيراً فوزي البواب الذي يريد إذلالي كما يذله معلمه وسكان العقار.

لحظات ودخل رتل من الحافلات، ورأيتني أنظر الي أرقام الحافلات متحيراً: حافلة رقم ١١ خط أكتوبر- النهضة ستأخذني الي مصنع النسيج أبدأ فيه حياة جديدة أودع بها حياة العاطلين، حافلة رقم 52 خط منشية ناصر- أكادمية مبارك، ستأخذني الي المقابر حيث يرقد أبي فأرقد بجواره أقرظه حتي توافيني المنية، حافلة رقم ٤٦ خط إمبابة-جامعة الدول العربية ستأخذني الي مجمع القمامة الخاص بالمعلم  أتسلم العربة والبغل وأبيع نفسي ومجد عائلتي وتاريخها العريق

ووجدتني أهتف حائراً

اي حافلة ستركبين يا ثورة بلادي؟

Single Post Navigation

Leave a comment